في الساعات الأخيرة، خيّم خبر صاعق على الساحة الفلسطينية والعربية بعدما أعلن مصدر مطّلع لقناتي «العربية» و«الحدث» أن إسرائيل نجحت في استهداف المتحدث الرسمي لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، المعروف بالاسم الحركي «أبو عبيدة»، وذلك عبر غارة جوية دقيقة طالت شقة سكنية كان بداخلها في قلب مدينة غزة. وأكد المصدر أن الضربة أودت بحياته رفقة كل من كان في الموقع، قبل أن يخرج أفراد من عائلته وقيادات بارزة في القسام ليعاينوا الجثمان ويؤكدوا مقتله، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة في مسار الصراع، إذ أن رحيل هذه الشخصية لم يكن حدثاً عادياً على الإطلاق، بل شكّل منعطفاً رمزياً وسياسياً وعسكرياً له ما بعده.
«أبو عبيدة» لم يكن مجرد متحدث باسم جناح مسلح، بل تحول خلال عقدين من الزمن إلى أيقونة إعلامية لها وقعها في وجدان الفلسطينيين والعرب. فمنذ ظهوره الأول في مطلع الألفية، وهو ملثم بالكوفية الحمراء التي لم يخلعها يوماً، اكتسب الرجل هالة من الغموض جعلته رمزاً للمقاومة وصوتها الأكثر حضوراً. كان لخطاباته وقع خاص على المستمعين، لما تميزت به من فصاحة في التعبير وصلابة في الموقف وجرأة في توجيه الرسائل، سواء إلى الداخل الفلسطيني أو إلى العدو الإسرائيلي. بل إن خطبه تحولت مع مرور الوقت إلى حدث جماهيري ينتظره الناس كما ينتظرون إعلاناً حاسماً أو خبراً مصيرياً، حتى صار صوته جزءاً من ذاكرة الحروب التي عصفت بغزة منذ عام 2008 مروراً بمعارك 2012 و2014 وصولاً إلى حرب «سيف القدس» ثم معركة «طوفان الأقصى» عام 2023.

وعلى الرغم من محاولات إسرائيل المتكررة لاغتياله في السنوات الماضية، والتي استهدفت منزله مرات عدة، ظل «أبو عبيدة» عصياً على الانكشاف، متمسكاً بملامحه المخفية خلف القناع، وباسمه المستعار الذي يختزن دلالة تاريخية حين استلهم من الصحابي فاتح القدس أبا عبيدة بن الجراح. لم يعرف الجمهور عنه سوى أنه من مواليد مخيم جباليا أو منحدر من بلدة نعليا المهجرة، وأنه التحق بكتائب القسام منذ سنوات شبابه حتى أصبح واحداً من قادتها الميدانيين قبل أن يعيَّن متحدثاً رسمياً عقب الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005. وقد رسّخ حضوره الإعلامي في مؤتمر شهير سنة 2006 عندما أعلن مسؤولية القسام عن عملية «الوهم المتبدد» شرق رفح، التي انتهت بقتل جنود إسرائيليين وأسر الجندي جلعاد شاليط، لتدخل صورته الملثمة حينها إلى بيوت الفلسطينيين والعرب، ويغدو الصوت الأكثر تداولاً في نشرات الأخبار والبيانات العسكرية.
وظلّت هوية «أبو عبيدة» الحقيقية سراً دفيناً لا يعرفه إلا قلة من قادة الحركة، غير أن الصحافة الإسرائيلية زعمت في أكثر من مرة أنها كشفت اسمه، حيث نشرت بعض وسائل الإعلام العبرية صورة لشاب قيل إنه «حذيفة سمير عبد الله الكحلوت»، وادعت أنه الاسم الأصلي للناطق العسكري. إلا أن حركة حماس نفت مراراً هذه المزاعم، مؤكدة أنها مجرد محاولات من أجهزة المخابرات الإسرائيلية لاختراق دائرة السرية المحيطة به. ومع ذلك، عادت هذه الفرضية إلى الواجهة من جديد بعد إعلان مقتله، إذ تداولت الصحافة العبرية الصورة والاسم نفسيهما مؤكدة أنهما يعودان للرجل الملثم الذي طالما أربك إسرائيل بخطاباته، في وقت لم يصدر فيه تأكيد رسمي من حماس حول هذه المعلومات، ليبقى الغموض ملازماً له حتى بعد رحيله.
مكانة «أبو عبيدة» لم تنبع فقط من كونه الناطق الرسمي للقسام، بل من قدرته على مخاطبة وجدان الناس في لحظات المحنة. فخطاباته التي كانت تُبث عبر قناة الأقصى أو على تطبيق «تلغرام» لم تكن مجرد بيانات عسكرية، بل رسائل مشحونة بالمعاني الروحية والتاريخية، تنتهي غالباً بعبارة مأثورة: «وإنه لجهاد نصر أو استشهاد». هذه الجملة التي استحضر فيها كلمات الشيخ عز الدين القسام قبل استشهاده عام 1935، باتت رمزاً لجمهور واسع من العرب والمسلمين، حتى تحولت خطاباته إلى طقس جماعي تتوقف له الحشود في المخيمات والبلدات والمدن، وتتناقل كلماته مكبرات الصوت في المساجد، وتُدرج أحياناً في امتحانات المدارس أو تُستعاد في الأغاني الشعبية، بل وصل صداها إلى المقاهي في بيروت وإلى مسارح الأطفال في الجزائر وتركيا.
ولأن دوره الإعلامي تجاوز حدّ البيانات التقليدية، صار «أبو عبيدة» أداة حرب نفسية قوية. فبينما كان الاحتلال يحاول إغراق الرأي العام الفلسطيني في أخبار الضحايا والدمار، كان يظهر ببياناته القصيرة ليبعث برسائل الطمأنة، ويُدخل الأمل في نفوس الغزيين، مؤكداً أن المقاومة ما تزال صامدة وقادرة على الرد. لهذا السبب أدرجته إسرائيل دائماً في قائمة المطلوبين الأوائل للتصفية، مدركة أن صوته لم يكن مجرد إعلام، بل معركة موازية لا تقل خطورة عن الصواريخ والأنفاق.
اليوم، وبعد الإعلان عن مقتله في غارة استهدفت حي الرمال بغزة وأودت بحياة عشرات الفلسطينيين، يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام لحظة فقدان قاسية لواحد من أبرز الرموز الذين التصقوا بالذاكرة الجمعية في العقدين الأخيرين. فالرجل الذي كان بالنسبة للبعض «الناطق باسم الأمة» قد رحل بصمته، لكن سيرته ستظل باقية بما مثّله من أيقونة مقاومة، وبما جسّده من قدرة على صناعة الكلمة كسلاح موازٍ للبندقية. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستكشف حماس يوماً ما عن هويته الحقيقية، أم أن «أبو عبيدة» سيظل في ذاكرة العرب والفلسطينيين صورة ملثم وصوتاً مزلزلاً لا يعرف الناس له وجهاً؟
ظهرت المقالة من هو حذيفة الكحلوت ابو عبيدة ويكيبيديا أولاً على أحداث العرب.